د. مزمل أبو القاسم يكتب … اتفاق (كباشي الحلو).. ضربة معلم
ضياء سليمان
خلال شهادته أمام الكونغرس الأمريكي قبل أيام من الآن؛ تحدث المبعوث الأمريكي الخاص توم بيريلو بصورة إيجابية عن الجيش السوداني، وقال إنهم يرون له مستقبلاً كمؤسسة رسمية للدولة، تتمتع بتاريخ مشرف وتحظى بدعم وثقة غالبية الشعب السوداني، وأضاف: (هذا ليس ما نراه بالنسبة للدعم السريع أو الجنجويد)، حيث وجه إليهم اتهامات مؤثرة، وذكر أنهم ارتكبوا مذابح جماعية، ومارسوا التطهير العرقي.
في تلك الإحاطة اتهم المبعوث الأمريكي الجيش ضمنياً بإعاقة وصول المساعدات الإنسانية للمناطق المتأثرة بالحرب.. وتلك تهمة باطلة، لأن الجميع يعلمون أن الغالبية العظمى من السودانيين المكتوين بنيران الحرب ظلوا يهربون من مناطق انتشار المرتزقة إلى مناطق سيطرة الجيش بحثاً عن الأمان والاستقرار والخدمات، وأن الجيش وفر الأمن والحماية والرعاية لكل من نزحوا إلى مناطق نفوذه.
بالأمس أتى الرد المفحم من قيادة الدولة والجيش ممثلةً في الفريق أول ركن شمس الدين الكباشي، الذي أبرم اتفاقاً في غاية الأهمية مع عبد العزيز الحلو قائد الحركة الشعبية شمال، قضى بتعاون الجانبين لوقف العمليات العسكرية وإيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين في مناطق ولاية جنوب كردفان.
تكمن أهمية الاتفاق في أنه سيدحض وينفي المزاعم التي تتهم الجيش بمنع وصول المساعدات الأنسانية للمناطق المتضررة من الحرب، ويؤكد أنه راغب وساعٍ لإغاثة مواطنيه، ومستعد لتقدم تنازلات مؤثرة لبلوغ تلك الغاية.
من الناحية السياسية يشير اتفاق كباشي الحلو إلى أن الجيش راغب في السلام وحريص عليه، وأن عنايته واهتماماته بالمدنيين لا ينحصر في المقيمين داخل مناطق سيطرته، بقدر ما يتصل بالموجودين خارج مناطق نفوذه.
فوق ذلك سيعيد هذا الاتفاق الحياة لاتفاق جوبا الذي أشرف عليه حميدتي قبل أن يتعمد تجميده وقتله لاحقاً، علاوةً على ذلك سيشكل الاتفاق المهم إشعار إضافة للجهود التي بذلتها دول الجوار لمحاصرة ومعالجة الأزمة السودانية.
من الناحية الدبلوماسية سيكون بمقدور الحكومة أن تشهر هذا الاتفاق المهم في وجه أي جهة تحاول دمغها بعدم الحرص على السلام، أو تتهمها بتعمد منع وصول المساعدات الإنسانية، لتثبت عدم صحة تلك المزاعم، وسيعزز الاتفاق موقف الحكومة في أي منبر دولي يتناول أزمة الحرب في السودان، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي ومجلس حقوق الإنسان في جنيف والاتحاد الإفريقي والإيقاد نفسها.
كذلك سيعزز الاتفاق وجود مؤسسات الدولة ويقويها في منطقة جنوب كردفان، وسيمكنها من مزاولة أعمالها وممارسة مهامها لتوفير المزيد من العناية والخدمات للمواطنين بمعزل عن هاجس المعارك التي كانت تشغل تلك المؤسسات وتمنعها من ممارسة مهامها.
وفي العموم سيخفف الاتفاق معاناة مواطني المنطقة، الذين يشكون من الجوع وانعدام الأمن وتدهور الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وعلاج وخلافه، تبعاً للهجمات الوحشية التي شنها الجنجويد عليهم، سيما في كادوقلي حاضرة الولاية والدلنج ومناطق أخرى، حاول الجنجويد احتلالها ودمروا مؤسساتها وآذوا مواطنيها.
بالطبع يمثل الاتفاق ثمرةً حلوة المذاق وتطوراً طبيعياً للتعاون العسكري الذي حدث بين الجيش والحركة الشعبية شمال، عندما اتحدا وتعاونا لصد الجنجويد وأوقعا بهم هزائم منكرة، سيما في مدينة الدلنج عندما قاتل فرسان الجيش مع جنود الحركة الشعبية كتفاً بكتف، وتشاركوا السلاح والذخيرة والخنادق حتى صدوا الجنجويد وأذاقوهم هزائم مريرة.
كذلك سيشكل الاتفاق ضغطاً كبيراً على الجنجويد وداعميهم، لأنه سيؤكد عدم رغبتهم في السلام، وسيخلق الاتفاق منبراً إقليمياً جديداً وموازياً لمنبر جدة، الذي شهد أسوأ أنواع التلاعب والاستهبال والمراوغة وعدم التزام الجنجويد بما تم التوافق عليه مع الجيش، وتوسيعهم لرقعة الحرب واستمرارهم في احتلال منازل المواطنين ومؤسسات الدولة ومراكز الخدمات، ومهاجمة مناطق آمنة، وقرى تخلو من أي وجود للجيش (الجزيرة مثالاً).
سيقطع الاتفاق القيِّم الطريق على منابر موازية، أريد لها أن تُقحم دولاً تعادي السودان وتقتل أهله وترعى وتقدم مساعدات عسكرية ضخمة للمتمردين، ولسنا بحاجة للإسهاب في تناول ذلك الملف.. لأن تفاصيله معلومة للكافة.
فوق ذلك سيحقق الاتفاق مكاسب ضخمة للدولة السودانية والجيش من الناحية العسكرية، لأنه سيقضي على مساعي تسخين محور جنوب كردفان، وسيقضي على مؤامرة (شد الأطراف) التي استهدفت فتح جبهات قتال جديدة لإنهاك الجيش وإضعافه وتشتيت جهوده، كما حدث في بواكير الحرب في المنطقتين (جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق).
بتبريد جبهة جنوب كردفان ستتمكن قوات الجيش من تفعيل وتوظيف كامل قواتها في الفرقة العاشرة مشاه (أبو جبيهة)، والفرقة 14 مشاه (كادوقلي)، وستتمكن من تحريكها لمساندة الفرقة الخامسة (هجانة أم ريش الأبيض) ومطاردة الجنجويد في مناطق أم روابة والنهود وجبل الداير، وقطع طريق الإمداد على المرتزقة، وتنظيف ولاية شمال كردفان من التمرد، وصولاً لإعادة تشغيل مطار الأبيض.
كذلك سيحقق الاتفاق مكاسب اقتصادية ضخمة لمواطني المنطقة، لأنه سيمكنهم من العودة لحياتهم الطبيعية والتحضير الجيد لموسم الزراعة الصيفي بهدوء، كي يعاودوا إنتاج غذائهم، ويقضوا على شبح المجاعة الذي يتهدد جنوب كردفان نتاجاً للمعارك التي دارت ابتداءً بين الجيش والحركة الشعبية، ولاحقاً بين الجنجويد من جهة، والجيش وقوات الحلو مجتمعةً من الناحية الأخرى، وسيحافظ الاتفاق على الأمن والسلم الاجتماعي لمواطني جنوب كردفان، ويعيدهم إلى حياتهم المعتادة.
باختصار يمثل الاتفاق ضربة معلم بكل الحسابات، السياسية والعسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك نشد على أيادي من وقعوه ومن سعوا إليه ومن ساعدوا على إكماله، وعلى رأسهم الرئيس سلفاكير ميارديت وتوت قلواك، مستشار الرئيس سلفاكير للشئون العسكرية والأمنية في جنوب السودان، وهو رجل مُحب للسودان ومجاهر يدعمه لمؤسسات الدولة السودانية، وعلى رأسها القوات المسلحة.
بالطبع لا يمكن للإشادة أن تخطئ القائدين اللذين مهرا الاتفاق بتوقيعيهما، ونعني بهما الجنرال كباشي وعبد العزيز الحلو، لأن الخطوة التي أقدمت عليها تطلبت قدراً غير قليل من الشجاعة والحكمة، علاوةً على أنها تخدم أهل المنطقة التي ينتمي إليها القائدان.. لذلك نقول للكباشي والحلو أحسنتما.. ننتظر منكما المزيد.. ولا عزاء للجنجويد!