الحنكة والحصافة حوّلت كمين جنيف إلى مغازلة أمريكية..
مبررات منطقية ساقتها الخرطوم، كسرت بها صلف وغرور واشنطن..
ارتياح شعبي وسياسي لمواقف القيادة وتمسكها بالسيادة الوطنية..
مكي مغربي: السودان دولة مستقلة، ولا وصاية عليها، ولا سمسرة في قضاياها..
أشرف خليل: فترة ما بعد 15 أبريل أوجدت التفافاً غير مسبوق حول القيادة السودانية..
تقرير: إسماعيل جبريل تيسو.
الموقف القوي والشجاع الذي اتخذته الحكومة السودانية برفضها المشاركة في منبر جنيف، أراح نفوس وأفئدة وقلوب الشعب السوداني، وشفى صدورهم، وتنزَّل عليهم برداً وسلاما، فقد كان الجميع يضع يده على قلبه خوفاً من أن تنصاع قيادة الدولة للضغوط الكبيرة والرهيبة التي ظلت تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية عبر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، ومبعوثها الخاص توني بييرللو والذين لم يفترا من الاتصالات المباشرة بقيادة الدولة والطرق على أسماعهم بضرورة حزم الحقائق والتوجه إلى سويسرا، والجلوس إلى طاولة التفاوض جنباً إلى جنب مع وفد ميليشيا الدعم السريع، ومسانديهم من دولة الإمارات العربية وغيرها، وتشكلت الضغوط تارةً بالتلويح بالعصا الوعيد والتهديد، وتارةً أخرى بتقديم الجزرة وإعمال الترغيب والتحبيب، وفي كلا الحالتين كان موقف الحكومة السودانية ثابتاً كالجبل الأشم ” نرفض جنيف، وعليكم بتنفيذ إعلان جدة.
موقف ثابت:
وظل رئيس مجلس السيادة الانتقالي، القائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، ينتهز كل سانحة ليجدد من خلالها موقف السودان المعلوم للوساطة الأمريكية – السعودية، وهو الرفض القاطع للمشاركة في محادثات جنيف، إلا بتنفيذ مقررات جدة باعتباره السبيل الوحيد لإيقاف الحرب، مضيفاً أنه إذا كانت واشنطن جادة في مساعي السلام بالسودان، فلتُلزم الميليشيا المتمردة بتنفيذ قرار مجلس الأمن بإنهاء حصار الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور، ووقف قصف المدنيين وقتلهم وتدمير المستشفيات.
رفض التوسعة:
وعلى طريق رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، تسير خطى نائبه الفريق أول ركن شمس الدين كباشي عضو مجلس السيادة، الذي أكد رفضهم توسعة منبر جدة، وقال إنهم لا يريدون وسطاء جدد غير السعودية والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي كما كان الحال في جدة، واتهم كباشي الولايات المتحدة الأمريكية بالمراوغة، وعدم جديتها وحرصها على تحقيق اتفاق سلام عادل يحقق مطلوبات الشعب ويضمن تعويضه على الضرر الكبير الذي تعرض له،
شرط التفاوض:
وكان مساعد القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن ياسر العطا قد كسر (قنينة الأمل) في إنهاء الحرب عبر الجلوس والتفاوض مع ميليشيا الدعم السريع، وأكد العطا استعداد الجيش للقتال “مائة عام” من أجل إزالة ميليشيا الدعم السريع من أرض البلاد، مبيناً أن استمرار الجيش في القتال يأتي استجابة لإرادة الشعب السوداني وقراراته، واعتبر العطا أن التفاوض ليس سوى تأجيل للمعركة، وتنتج عنه مشكلات سياسية وعسكرية وأمنية تعرقل تطور الدولة السودانية، مشترطاً أن يكون التفاوض مع ميليشيا الدعم السريع، من أجل استسلامها.
مواقف مساندة:
وتنفست الكثير من القوى السياسية الصُعداء إزاء موقف قيادة الدولة من التفاوض في منبر جنيف، وأعلنت الكتلة الديمقراطية السودانية تمسكها بضرورة تنفيذ مخرجات إعلان جدة واصفة مفاوضات جنيف بأنها حلقة من حلقات التآمر ضد السودان ومحاولة لاستنساخ الاتفاق الإطاري الذي أشعل الحرب في البلاد، كما رفضت أية مساعي لعودة ميليشيات “الدعم السريع” إلى الحياة السياسية بأية دواع كانت، مشيدة في بيان لها بموقف الحكومة الرافض للمشاركة في مفاوضات جنيف تعبيراً عن إرادة الشعب السوداني وتمسكاً بالسيادة الوطنية.
التفاف حول القيادة:
ويؤكد الكاتب الصحفي والمستشار القانوني الأستاذ أشرف خليل أن واحدة من بركات فترة ما بعد 15 من أبريل أنها أوجدت التفافاً غير مسبوق حول القيادة السودانية، وثباتاً وطنياً باذخاً مكَّن القيادة من اتخاذ مواقف صعبة في أوقات عصيبة، ويشير أشرف خليل في إفادته للكرامة إلى الموقف الحكومي الماثل من مفاوضات جنيف، ويعتبره واحداً من أكثر المنحنيات العصية انحرافاً وتأثيراً، ممتدحاً موقف المفاوض السوداني الذي قال إنه بذل جهداً مبذولاً، وقدم موقفه على نحو من الوضوح والرسوخ والإبانة والإقناع بما أفضى إلى تحويل الكمين المعد بعناية في جنيف، إلى سانحة فضلى لتحويل دفة المفاوضات وتوجيه أنظار العالم إلى انشغالاتنا والإمساك بالتشخيص السليم لأدواء الأزمة السودانية الماثلة والسابقة، مؤكداً أن القيادة السودانية ومن حولها من القوى الوطنية نجحت بملحمتها التفاوضية في قلب الطاولة وتحديد وفضح المتلاعبين بحق وحقيقة بأقدار السودانيين ومستقبلهم.
لا وصاية على السودان:
السودان دولة مستقلة ليس لأحد وصاية عليها ولا سمسرة في قضاياها، ولا نحتاج لكفيل في إدارة مفاوضات مع عدو أو صديق، هكذا يبتدر الكاتب الصحفي والمحلل السياسي الأستاذ مكي مغربي حديثه للكرامة، ويثمن توجه الحكومة السودانية للانفتاح خارجياً من خلال تصميم علاقات ثنائية مباشرة مع كبار العالم وصغاره بحثاً عن المصالح المشتركة دون وسطاء أو سماسرة دوليين مرتشين، الأمر الذي يجعل السودان متحرراً من كل القيود التي كبلته في السابق على شاكلة شلل الآلية الرباعية التي كانت قد أقعدته من الحركة، في وقت كانت فيه ميليشيا الدعم السريع تتمدد على مساحات شاسعة على المستوى الإقليم والدولي، وطالب مغربي الحكومة السودانية بالمضي قدماً في هذا التوجه الذي يكسبها قوة ومنعة ويعزز من ثباتها، محذراً من مغبة أي ملاينة أو مهادنة من أي دولة أو دويلة متدخلة في السودان، مما يعيد المعادلة الحكومية إلى المربع الأول، وينسف بالتالي هذه الثنائيات المباشرة من الداخل، وبأيدي صناع القرار أنفسهم.
مؤشر جيد:
ويشير الأستاذ أشرف خليل إلى التحول الحقيقي الذي يكتنف مسار العلاقات السودانية الأمريكية بعيداً عن لغة المواجهة والعناد والاختصام، وعدم الانحشار في ضيق التماهي والانصياع المتزلف البغيض، منوهاً إلى أن هذه التطور يعتبر مؤشراً للموقف القوي الذي اتخذته القيادة السودانية بشأن جنيف، مما جعل البلدين يدخلان حالياً إلى سعة العلاقات الطيبة السليمة المبنية على مثلث الحب، الاحترام، والحرية، مبيناً أنه لا أحد يتفاوض مع طرف متعجرف أو متغطرس أو يتحدث بأسلوب وقح أو بذيء، مؤكداً انتهاء عهد الارهاق النفسي والعاطفي الذي كان يقترفه السودان وهو يحاول النهوض عند كل سباق دولي لتحديد احتياجاته الوطنية وتثوير مصالحه ووضعها في الأمام والموعد.
خاتمة مهمة:
ومهما يكن من أمر تبقى تجربة السودان في تعاطيه القوي والشجاع مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن منبر جنيف، بمثابة خطوة متقدمة على التعاطي مع المجتمع الدولي وفقاً لمصالحه، وهي مؤشرات إيجابية تفتح أبواباً من الأمل وترسم صورة مشرقة لشكل السودان الجديد في مرحلة ما بعد الحرب، على قدر أهل العزم تأتي العزائم.